حوار المقاومة: من الثورة الإيرانية إلى تداعيات 7 أكتوبر

مقدمة:
يشكل “محور المقاومة” مصطلحًا مركزيًا في الخطاب السياسي والإعلامي للشرق الأوسط، لكن فهم نشأته وتطوره يقتضي الغوص عميقًا في التاريخ الإيراني الحديث، وتحديدًا منذ الثورة الإسلامية عام 1979. يتناول هذا المقال قصة هذا المحور، بدءًا من جذوره في الحرب العراقية الإيرانية، مرورًا بصعود حزب الله كقوة إقليمية، وصولًا إلى التحديات الكبيرة التي تواجهه في أعقاب أحداث 7 أكتوبر. سنقوم بتحليل معمق للعقلية الإيرانية التي تقف خلف هذا المحور، وكيف أثرت المتغيرات الإقليمية والدولية على مساره، مع التركيز على نقاط التحول الحاسمة التي شكلت هذا المحور كما نعرفه اليوم. هدفنا تقديم رؤية تحليلية متوازنة بعيدًا عن التبسيط والاختزالية، ومساعدة القارئ العربي على فهم أعمق للقضايا المعقدة التي تشكل مستقبل المنطقة.
جذور محور المقاومة: من رماد الحرب إلى طموحات إقليمية
الثورة الإيرانية: نقطة تحول في الشرق الأوسط
كانت الثورة الإيرانية عام 1979 بمثابة زلزال هز أركان المنطقة، حيث أطاحت بنظام الشاه المدعوم من الغرب، وأنتجت نموذجًا سياسيًا مختلفًا تمامًا. هذا التحول الجذري لم يقتصر على الداخل الإيراني، بل امتد ليطال علاقات إيران الإقليمية والدولية. فالنظام الجديد، الذي خرج من رحم الثورة، وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع قوى إقليمية ودولية، مما دفعه إلى البحث عن تحالفات جديدة لحماية أمنه القومي وتعزيز نفوذه الإقليمي.
الحرب العراقية الإيرانية: الميلاد الصعب
شكلت الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) نقطة مفصلية في تشكيل الفكر الاستراتيجي الإيراني. فقد خرجت إيران من هذه الحرب مدمرة اقتصاديًا ومجتمعيًا، ولكنها أيضًا اكتسبت خبرة عسكرية وسياسية عميقة. أدركت إيران خلال هذه الحرب بأنها وحيدة، بلا حلفاء حقيقيين باستثناء سوريا الأسد، وأن عليها بناء نظام دفاعي ذاتي قادر على حماية أمنها القومي. من هنا، بدأت تتبلور فكرة بناء “محور المقاومة” كآلية لتوسيع نطاق نفوذها خارج الحدود، ولخلق “غطاء أمني سميك” يحمي مصالحها الإقليمية.
من “تصدير الثورة” إلى بناء التحالفات
على الرغم من الحديث المبكر عن “تصدير الثورة”، إلا أن إيران لم تنجح في ذلك قبل عام 1993. كان الخطاب الثوري حاضرًا، لكن الفعل الحقيقي جاء لاحقًا، عندما أدركت إيران حاجتها الماسة إلى حلفاء في المنطقة. شكل حزب الله اللبناني النواة الأولى لهذا المحور، حيث تحول من مجرد حركة مقاومة محلية إلى حليف استراتيجي لإيران، قادر على تنفيذ أجندتها الإقليمية. كانت البوصلة الجامعة في هذه التحالفات هي القضية الفلسطينية، التي مثلت أرضية مشتركة بين إيران وحلفائها في المنطقة.
توسع المحور: صعود حزب الله وتأثيرات حرب تموز 2006
حزب الله: درة التاج في النفوذ الإيراني
لم يكن حزب الله مجرد حليف لإيران، بل أصبح “درة التاج” في نفوذها الإقليمي. فقد أظهر الحزب قدرة فائقة على مواجهة إسرائيل في حرب تموز 2006، وحقق انتصارًا شكّل نقلة نوعية في مكانته كقوة إقليمية. لم يكن هذا الانتصار مجرد إنجاز عسكري، بل كان أيضًا بمثابة انتصار سياسي لإيران، التي استثمرت في دعم الحزب ليصبح قوة مؤثرة في لبنان والمنطقة.
“دوائر النار” حول إسرائيل
عملت إيران على بناء ما يمكن وصفه بـ “دوائر النار” حول إسرائيل، حيث تشكل الدائرة الأولى حركات المقاومة التي تواجه إسرائيل مباشرة (حماس في غزة، حزب الله في لبنان)، بينما تضم الدائرة الثانية خطوط الإمداد لهذه الحركات (سوريا)، والدائرة الثالثة حلفاء إيران البعيدين (الحوثيون في اليمن). هذه الدوائر، التي تم بناؤها على مر سنوات طويلة، خدمت الأمن القومي الإيراني وقوة إيران الإقليمية بشكل كبير، وصنعت توازن رعب في المنطقة.
تأثيرات البرنامج النووي
شكل البرنامج النووي الإيراني بعد عام 2003 عاملًا حاسمًا في تعزيز مكانة إيران الإقليمية. فقد أصبح البرنامج بمثابة “ورقة رادعة” تحمي إيران من أي تهديد خارجي، وتسمح لها بالتحرك بحرية أكبر في المنطقة. لم يكن البرنامج النووي مجرد مشروع تقني، بل كان أيضًا جزءًا من استراتيجية إيرانية شاملة تهدف إلى تحقيق الأمن القومي وتعزيز النفوذ الإقليمي.
تحولات الربيع العربي وتأثيرها على المحور
الربيع العربي: اختبار للعلاقات الإقليمية
شكلت ثورات الربيع العربي في عام 2011 اختبارًا حقيقيًا للعلاقات الإقليمية في المنطقة. تعاملت إيران مع هذه الثورات بشكل مختلف، فباركت ما جرى في مصر، لكنها انقسمت حول ما يحدث في سوريا. كان السؤال المحوري: هل تدعم إيران نظام الأسد، حليفها الاستراتيجي، أم تقف مع الشعب السوري؟ انتهى الأمر بدخول إيران في سوريا، بعد أن تبين لها بأن النظام السوري يمثل “الحلقة الذهبية” في محور المقاومة.
حماس: الخروج من سوريا والتحولات في التحالفات
في خضم الأحداث السورية، اتخذت حركة حماس قرارًا بالخروج من سوريا، مما عكس مدى تعقيد التحالفات في المنطقة. لم يكن هذا الخروج مجرد خلاف على تقييم الأحداث السورية، بل كان أيضًا بمثابة إشارة إلى أن محور المقاومة ليس كتلة متجانسة، بل هو مجموعة من الفصائل المختلفة التي تتفق على هدف واحد (مقاومة إسرائيل)، لكنها تختلف في الكثير من القضايا الأخرى.
سوريا: المستنقع الإيراني
أثبتت التجربة السورية بأن إيران قد تكون ارتكبت خطأ استراتيجيًا بدخولها في الصراع. فقد تحولت سوريا إلى “مستنقع” استنزف موارد إيران، وكشف عن محدودية قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث. كما أن هذه التجربة أظهرت بأن النظام السوري، الذي كانت تعتبره إيران “حلقة ذهبية”، ليس بالضرورة حليفًا موثوقًا به، وأنه قد يكون متورطًا في استهداف قادة إيرانيين.
تداعيات 7 أكتوبر: زلزال في محور المقاومة
7 أكتوبر: بداية فصل جديد
شكلت أحداث 7 أكتوبر وما تلاها من تصعيد في غزة زلزالًا هز أركان محور المقاومة. لم يكن هذا الهجوم متوقعًا لإيران، حيث كان من المفترض أن تبدأ أي معركة كبرى من جنوب لبنان، وليس من غزة. كما تفاجأت إيران برد الفعل الإسرائيلي العنيف، والدعم الأمريكي غير المسبوق لإسرائيل.
إيران: بين ضبط النفس والتهديدات المتصاعدة
في مواجهة هذا التحدي الكبير، اختارت إيران سياسة “ضبط النفس”، مع التركيز على دعم حلفائها في المنطقة، لكنها لم تذهب إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل. في الوقت نفسه، كانت تتعرض لتهديدات متزايدة من إسرائيل، التي بدأت تستهدف قادة إيرانيين في سوريا ولبنان، وتوسع نطاق استهدافها ليشمل حتى الأراضي الإيرانية. هذا التصعيد دفع إيران إلى تغيير قواعد الاشتباك، والرد مباشرة على إسرائيل في عملية “وعد صادق”، لكنها ظلت في حدود “الاستعراض” ولم تذهب إلى حرب مفتوحة.
ما بعد 7 أكتوبر: إعادة تقييم وتحولات محتملة
في أعقاب أحداث 7 أكتوبر، تجد إيران نفسها أمام تحديات غير مسبوقة. فقد انكشف الأمن القومي الإيراني مرة أخرى، وأصبح النفوذ الإقليمي الذي كان يمثل “غطاءً سميكًا” لهذا الأمن مكشوفًا. أمام هذه التحديات، تبحث إيران عن خيارات جديدة لحماية أمنها القومي، منها تعزيز “الردع الذاتي”، واستكشاف إمكانية الحوار مع الولايات المتحدة، وحتى تغيير العقيدة النووية. لا شك أن الشرق الأوسط يشهد تحولات كبيرة، وإيران تسعى لتكون جزءًا من هذه التحولات، وأن تحافظ على مصالحها في النظام الإقليمي الجديد.
الخلاصة: نحو شرق أوسط جديد
شكل “محور المقاومة” جزءًا لا يتجزأ من المشهد السياسي في الشرق الأوسط على مدى عقود، لكنه الآن يواجه تحديات وجودية غير مسبوقة. لم يعد هذا المحور كما كان قبل 7 أكتوبر، بل بات أكثر ضعفًا وتشتتًا، في ظل التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة. تسعى إيران الآن إلى إعادة تقييم استراتيجيتها، وإيجاد طرق جديدة لحماية مصالحها وتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط الجديد، لكن هذه المهمة ليست سهلة، وتتطلب منها الكثير من المرونة والتكيف. يبقى السؤال: هل ستنجح إيران في الحفاظ على دورها كلاعب مؤثر في المنطقة، أم ستتراجع تحت ضغط المتغيرات المتسارعة؟
خاتمة:
إن قصة “محور المقاومة” ليست قصة جامدة، بل هي قصة متحركة، تتغير وتتطور بتغير الظروف والتحولات الإقليمية والدولية. ما هو واضح الآن هو أن الشرق الأوسط يمر بمرحلة فاصلة، وأن النظام الإقليمي القائم يتجه نحو التغيير. يبقى على إيران أن تتكيف مع هذه التغييرات، وأن تختار بحكمة طريقها في الشرق الأوسط الجديد، الذي ربما لن يكون كما كان. قد يكون هذا الوقت هو وقت التفكير العميق، وإعادة التقييم الجذري لكل ما كان، لكي يتم بناء المستقبل على أسس أكثر صلابة وواقعية.






