مشروع النهضة والتجربة السورية: د جاسم سلطان

مقدمة:
في عالم يموج بالمتغيرات والتحديات، يظل سؤال النهضة العربية والإسلامية هاجسًا يؤرق النخب الفكرية والسياسية. كيف ننهض بأمتنا؟ وما هي الشروط الموضوعية لتحقيق نهضة حقيقية وشاملة؟ في حوار فكري معمق، يستعرض الدكتور جاسم سلطان، المفكر والخبير الاستراتيجي، رؤيته لمشروع النهضة، متخذًا من التجربة السورية مختبرًا حيًا لتحليل الأفكار واختبارها على أرض الواقع. يقدم الدكتور سلطان في هذا الحوار، تشخيصًا دقيقًا لأزمة الفكر العربي والإسلامي، ويطرح مقاربة متكاملة للنهضة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين العلم والإيمان، وبين الفكر والعمل.
1. مشروع النهضة: الإطار الفكري الشامل
لم يكن مشروع النهضة، كما يوضح الدكتور سلطان، مجرد رد فعل على المد الإسلامي في سبعينيات القرن الماضي، بل كان تساؤلاً عميقًا حول جدوى الأساليب الدعوية التقليدية في تحقيق نهضة حقيقية. إنه ليس مجرد برنامج عمل تفصيلي للتنمية الاقتصادية أو السياسية، بل هو إطار فكري ومعرفي شامل لفهم العصر وتحدياته، وتقديم رؤية متكاملة للتغيير والإصلاح.
“مشروع النهضة ليس وصفة جاهزة، بل هو بوصلة توجهنا في الاتجاه الصحيح، وتساعدنا على فهم الواقع وتحديد الأولويات.”
يهدف المشروع إلى بناء وعي جديد، وتشكيل عقلية قادرة على استيعاب التحديات المعاصرة، وتقديم حلول مبتكرة للمشكلات المزمنة التي تعاني منها الأمة. إنه دعوة للتفكير النقدي، والتخلي عن الأفكار الجاهزة والموروثة، والانفتاح على التجارب الإنسانية الناجحة.
2. العلوم الإنسانية: جناح النهضة المفقود
يؤكد الدكتور سلطان على أهمية العلوم الإنسانية في تحقيق النهضة، فهي ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة حتمية لفهم الواقع المعاصر وتعقيداته. يرى أن النهضة تتطلب جناحين: العلوم الشرعية التي تمكننا من فهم النص واستلهام قيمه، والعلوم الإنسانية التي تمكننا من فهم الواقع وتفسير تغيراته.
إن فهم طبيعة المجتمعات البشرية، وتحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ودراسة التاريخ الإنساني وتجاربه، كلها أمور لا غنى عنها لبناء نهضة حقيقية. العلوم الإنسانية ليست بديلاً عن العلوم الشرعية، بل هي مكملة لها، وتساعد على تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقًا صحيحًا وواقعيًا، يراعي ظروف العصر ومتطلباته.
3. التجربة السورية: مختبر الأفكار ومعترك الواقع
تعتبر الثورة السورية، من وجهة نظر الدكتور سلطان، بمثابة مختبر عملي لأفكار مشروع النهضة. لقد كشفت التجربة السورية عن صواب بعض الطروحات النظرية، وضعف بعضها الآخر. إن نجاح الثورة في بدايتها يعود إلى عوامل موضوعية، مثل الدعم الشعبي الواسع، والقوة المقاتلة المنظمة، لكن التحديات المستقبلية تكمن في إدارة التنوع والاختلافات بعد تحقيق الهدف المشترك، وهو إسقاط النظام.
“التجربة السورية تعلمنا أن الثورات ليست مجرد لحظات حماسية، بل هي عملية بناء طويلة ومعقدة، تتطلب رؤية واضحة وإدارة حكيمة.”
إن المرحلة التي تلي الثورة هي الأصعب، فهي تتطلب بناء مؤسسات الدولة، وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، وتحقيق المصالحة الوطنية، ومعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. كما تواجه التجربة السورية تحديات أخرى، مثل الديون المتراكمة، والنظام البنكي الربوي، وقضايا الحدود الدولية والهوية الوطنية، وتطبيق الشريعة، والتعامل مع الأقليات والأكثريات، والتنافس بين التيارات الفكرية المختلفة.
4. عقدة الصراع في العصر الحديث: العلم والتكنولوجيا
يشدد الدكتور سلطان على أن طبيعة الصراع في العصر الحديث قد تغيرت جذريًا. لم يعد الصراع يعتمد على البطولة الفردية أو القوة العددية فقط، بل أصبح يعتمد بشكل أساسي على التقدم العلمي والتكنولوجي والصناعي. القوة الحقيقية في هذا العصر تكمن في القدرة على التصنيع والابتكار والبحث العلمي.
“حماية العلماء والمفكرين في هذا العصر أهم من حماية الجنود، لأن العلماء هم الذين يصنعون القوة الحقيقية للأمة.”
إن الدول التي تملك ناصية العلم والتكنولوجيا هي التي تملك زمام المبادرة في العالم، وهي التي تستطيع أن تفرض إرادتها وتحقق مصالحها. أما الدول التي تعتمد على استيراد التكنولوجيا، وتهمش البحث العلمي، وتهدر طاقات شبابها، فسوف تظل تابعة وضعيفة، ولن تستطيع أن تحقق نهضة حقيقية.
5. النجاح بالنقاط: استراتيجية التراكم التدريجي
يرى الدكتور سلطان أن النجاح في العصر الحديث لا يتحقق بالضربة القاضية، أي بالحلول السريعة أو الثورات المفاجئة، بل يتحقق بالتراكم التدريجي للقوة والتقدم في مختلف المجالات: العلمية، والصناعية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.
“النهضة ليست سباقًا قصيرًا، بل هي ماراثون طويل، يتطلب صبرًا ومثابرة وعملًا دؤوبًا.”
إن بناء المؤسسات القوية، وتطوير التعليم والبحث العلمي، وتشجيع الابتكار والإبداع، وتحسين مستوى المعيشة، وتعزيز قيم العدل والمساواة، كلها أمور تتطلب وقتًا وجهدًا وتخطيطًا استراتيجيًا. لا يمكن تحقيق النهضة بقرار سياسي أو بفتوى دينية، بل هي عملية بناء شاملة تتطلب مشاركة جميع أفراد المجتمع.
6. نحو مستقبل مشرق: الأمل ممكن ولكن!
رغم التحديات الجسام التي تواجه الأمة العربية والإسلامية، فإن الدكتور سلطان يرى أن الأمل في النهضة لا يزال ممكنًا. يستشهد بتجارب دول أخرى، مثل الصين وسنغافورة، التي استطاعت أن تتغلب على تحديات أكبر، وأن تحقق نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية مبهرة.
إن اليأس ليس حلاً، والتشاؤم ليس خيارًا. الأمل موجود، لكن الأهم هو تحديد الشروط الموضوعية للنهضة، والعمل الجاد لتحقيقها. يجب أن نعي طبيعة العصر الحديث وتحدياته، وأن نطور الأدوات الفكرية والمعرفية والإدارية اللازمة لمواجهتها. يجب أن نستفيد من التراث الإسلامي العظيم، لكن يجب أن يكون ذلك في سياق فهم الواقع المعاصر والاستفادة من العلوم الإنسانية والتجارب العالمية الناجحة.
الخاتمة:
إن مشروع النهضة، كما يطرحه الدكتور جاسم سلطان، هو دعوة للتفكير والعمل، وللتفاؤل والأمل. إنه دعوة لبناء مجتمعات قوية ومزدهرة، تستطيع أن تواجه تحديات العصر، وأن تستعيد مكانتها اللائقة بين الأمم. إنه مشروع يتطلب تضافر جهود جميع أبناء الأمة، وتكامل الأدوار بين العلماء والمفكرين والسياسيين والاقتصاديين، وبين الشباب والشيوخ، وبين الرجال والنساء. إنه مشروع يستحق أن نعمل من أجله جميعًا، وأن نورثه لأجيالنا القادمة، ليكونوا خير خلف لخير سلف. إن النهضة ليست حلمًا مستحيلاً، بل هي هدف قابل للتحقيق، إذا ما توفرت الإرادة الصادقة، والوعي العميق، والعمل الجاد.