من زقاق اللاذقية إلى قيادة استعصاء صيدنايا ( ج 1 )

في خضم الأحداث المتسارعة التي شهدتها سوريا، تبرز قصصٌ إنسانيةٌ فريدة، تجسد معاني الصمود والتحدي. من بين هذه القصص، تطل علينا قصة حسن صوفان، الرجل الذي عرف بأكثر من اسم – شادي المهدي، أبو البراء، أبو عبد الرحمن – كل منها يحمل ذكرى ومرحلة في حياته المليئة بالتحولات. تبدأ هذه القصة في زقاقٍ متواضع بمدينة اللاذقية الساحلية، لتتشابك مع تعقيدات السجون السورية، وتداعيات الثورة، وصولًا إلى قيادة فصيلٍ ثوريٍ مؤثر. هذه المقالة ليست مجرد سرد لأحداث، بل هي رحلة في عقل وروح هذا الرجل، تكشف عن جوانب لم تُروَ من قبل، وتُلقي الضوء على تجربة السجن القاسية ودورها في تشكيل وعيه وهويته. إنها قصة تلهم الأمل وتدعو إلى التأمل في قدرة الإنسان على التغيير والتحول.
1. النشأة والتكوين المبكر: جذور الهوية والقيم
- 1.1 زقاق العوينة: البدايات المتواضعة:
- ولد حسن محمد سليم صوفان في مدينة اللاذقية، وتحديدًا في حي العوينة القديم، حيث نشأ في بيت عربي تقليدي وسط زقاقات ضيقة، أو كما يسميها أهل اللاذقية “زراب”، تجسد فيها عبق التاريخ وروح الأصالة. كان هذا الزقاق، الواقع بالقرب من الباب الغربي للجامع الجديد، مسرح طفولته وشاهدًا على خطواته الأولى في الحياة. هذه البدايات المتواضعة زرعت فيه قيم التواضع والبساطة.
- 1.2 التأثير العائلي والمجتمعي:
- أسس اللغة والدين: لعبت عائلة حسن دورًا محوريًا في تشكيل وعيه وقيمه. كان والده مدرسًا للغة العربية، خريج جامعة دمشق، مما أثر فيه تأثيرًا كبيرًا في حبه للغة العربية الفصحى وقواعدها. كما كان للمسجد دور كبير في حياته، خاصة جامع صوفان وجامع المشاطي، حيث كان الشيخ حسن صاري رحمه الله يعلمه القرآن والأخلاق الحميدة. هذه التجارب المبكرة غرست فيه حب اللغة العربية والتدين العميق، وأثرت في أسلوبه اللغوي الذي يظهر في تغريداته وكتاباته.
- 1.3 التنوع الديني والثقافي:
- الانفتاح على الآخر: لم تقتصر حياة حسن على دائرة المسجد والبيت، بل نشأ في بيئة متنوعة دينيًا وثقافيًا، حيث تعايشت الأديان والمذاهب المختلفة بسلام. كانت مدرسته، صلاح الدين، تقع بالقرب من الكنائس القديمة، مما أتاح له فرصة التعرف على ثقافات مختلفة، وتنمية قدرته على فهم الآخر واحترامه. هذا الانفتاح على التنوع ساهم في تكوين شخصيته المتسامحة والمنفتحة على الحوار.
2. سنوات القمع وبذور التغيير: وعي مبكر بالظلم
- 2.1 وعي مبكر بالظلم: النظام كابوس لا يزول: رغم صغر سنه، كان حسن على وعي بجرائم النظام السوري، وتأثيرها على الشعب. لم تكن هذه المعرفة مجرد معلومات يتلقاها، بل كانت جزءًا من حياته اليومية، ومن حكايات الأهالي التي كانت تُروى بصوت خفيض خوفًا من بطش النظام. هذه الأحداث تركت بصمة عميقة في ذاكرته وشخصيته، وزرعت فيه بذور المقاومة والتغيير. كان النظام بالنسبة له كابوسًا لا يزول، وكان سقوط هذا الكابوس حلمًا مشتركًا بين جميع المظلومين والمعتقلين.
- 2.2 حماه: رمز للمقاومة: دافع للتحرك: كانت أحداث حما عام 1982 حاضرة بقوة في أذهان السوريين، وملهمة للشباب الباحث عن التغيير. كانت حماه رمزًا لمقاومة الظلم والطغيان، ومثالًا على وحشية النظام السوري. هذه الأحداث كانت محفزًا لحسن للبحث عن طرق لمواجهة الظلم، وحماية الشعب السوري من تكرار هذه المذابح. كان يرى في حماه تجسيدًا لمعاناة الشعب السوري، ودافعًا للعمل من أجل الحرية والكرامة.
- 2.3 تقارير النظام الأمنية: مراقبة شاملة: حتى في سن الطفولة والمراهقة، كان النظام يراقب تحركات حسن وأصدقائه، ويسجلها في تقارير أمنية. كان النظام مهووسًا بالسيطرة والمراقبة، حتى على الأطفال الذين يذهبون إلى البحر للصلاة في جماعة. هذا يدل على عقلية أمنية شاملة تتبع حتى التفاصيل الصغيرة، وتعتبر أي تجمع أو نشاط غير مرخص تهديدًا لها. هذه المراقبة المستمرة زادت من وعي حسن بخطورة النظام وضرورة التحرك بحذر.
3. من الاعتقال إلى استعصاء صيدنايا: تجربة السجن والتحول
- 3.1 الاعتقال بسبب ورقة: بداية رحلة قاسية: في عام 2006، تم اعتقال حسن بسبب ورقة اعتبرها النظام تهديدًا لأمنه واستقراره. هذه الورقة، التي لم يتم الكشف عن محتواها بالتفصيل، كانت بداية رحلته القاسية في سجون النظام، حيث عانى من الظلم والقهر والإهانة. هذا الاعتقال لم يكن مجرد حادث عابر، بل كان نقطة تحول في حياته، حيث بدأ رحلة استكشاف الذات والتفكير العميق في معنى الحرية والعدالة.
- 3.2 تجربة فرع فلسطين: التعذيب واليأس: خلال فترة احتجازه في فرع فلسطين، تعرض حسن للتعذيب والإهانة، وعاش لحظات من اليأس والإحباط. كان فرع فلسطين مكانًا موحشًا، حيث كانت تنتهك فيه كرامة الإنسان وتتعرض فيه النفس لأقسى أنواع العذاب. لكن حسن استغل هذه الفترة في التأمل ومراجعة الذات، وفي تقوية إيمانه وعلاقته بالله، وتحويل هذه المعاناة إلى دافع للعمل والتغيير.
- 3.3 اكتشاف الذات في المنفردة: التأمل والتدبر: في زنزانات صيدنايا الانفرادية، وجد حسن ملاذًا للتفكير والتأمل، حيث اكتشف نفسه بعمق، وأدرك نقاط قوته وضعفه، واكتسب القدرة على الصبر والثبات. كانت المنفردة مكانًا للوحدة والعزلة، لكنها في الوقت نفسه كانت مكانًا للتواصل مع الذات والتفكر في معاني الوجود. في هذه الوحدة، ختم حسن القرآن عدة مرات، واستمد منه القوة والعزيمة لمواجهة الظلم. يعتبر حسن هذه المرحلة من حياته محطة مهمة لا يمكنه التخلي عنها أو اعتبارها شيئًا سلبيًا، بل يرى فيها أساسًا لتكوين شخصيته.
4. قيادة التمرد في صيدنايا: تحدي النظام من الداخل
- 4.1 التمرد الأول: الشرارة الأولى: اندلع التمرد الأول في سجن صيدنايا عام 2008 نتيجة لتجاوزات إدارة السجن، وسرعان ما تحول إلى سيطرة كاملة للسجناء على السجن. كان التمرد نتيجة لتراكم الغضب والإحباط لدى السجناء، الذين كانوا يعانون من الظلم والإهانة بشكل يومي. كان قطع الكهرباء من قبل أحد الجنود الشرارة التي أشعلت لهيب الثورة، وأظهرت مدى قوة السجناء وعزيمتهم. هذه الثورة المصغرة كانت بمثابة تدريب عملي لهم على القيادة والتنظيم.
- 4.2 دور حسن كقائد: قيادة سياسية وعسكرية: برز حسن كقائد سياسي للتمرد، بينما كان أبو حذيفة الأردني القائد العسكري. هذه القيادة المزدوجة أدارت السجن بكفاءة، ونسقت بين الجانبين العسكري والسياسي لتحقيق أهداف الثورة. كان حسن يتولى زمام التفاوض، بينما كان أبو حذيفة مسؤولًا عن الجانب الأمني. هذا التنسيق والتعاون بينهما أثمر عن تحقيق السيطرة على السجن وإدارة شؤون السجناء.
- 4.3 تفاوض مع النظام: قوة المفاوضة: قاد حسن فريق التفاوض مع النظام، الذي أرسل وفدًا رفيع المستوى للتفاوض مع السجناء. كان الهدف من التفاوض هو تحقيق مطالب السجناء، وحماية حقوقهم. تم التوصل إلى اتفاق مؤقت بين الطرفين، لكن سرعان ما نقضته إدارة السجن، التي كانت تسعى لاستعادة السيطرة على السجن بأي ثمن. هذه المفاوضات أظهرت مدى قوة السجناء وقدرتهم على مواجهة النظام.
5. التمرد الثاني: اختبار القيم والقيادة: محطة فاصلة في تاريخ السجن
- 5.1 أسباب التمرد الثاني: استغلال التجاوزات: بعد التجاوزات التي قام بها بعض السجناء، واستغلال النظام لهذه التجاوزات لتشويه صورة السجناء، تصاعد التوتر داخل السجن مرة أخرى، وأدى إلى اندلاع تمرد ثان. كان النظام يسعى إلى إثارة الفتنة بين السجناء، وإظهارهم على أنهم مجموعة من الخارجين عن القانون، لكي يبرر قمعهم ووحشيته. لكن السجناء كانوا على قدر من الوعي والإدراك، وتمكنوا من تجاوز هذه المحاولات.
- 5.2 السيطرة على السجن وإدارة الأزمة: قوة التنظيم: سيطر السجناء على السجن بالكامل مرة أخرى، وقاموا بتشكيل لجان لإدارة الأزمة، وتنسيق الجهود. كان التنسيق والتعاون بين السجناء مثالًا رائعًا على قدرة الشعب السوري على التنظيم والعمل الجماعي. قام السجناء بتأمين السجن، وإطلاق سراح الأسرى من الضباط والعناصر، مع الحفاظ على حياتهم وكرامتهم.
- 5.3 إدارة الخلافات الداخلية: وحدة الصف: في خضم التمرد، ظهرت خلافات بين السجناء حول بعض القضايا، لكن حسن قام بالتوسط وحل المشاكل، والحفاظ على وحدة الصف. كان حسن يتمتع بشخصية قيادية محبوبة، وقدرة على الإقناع والتأثير، مما ساعده على تجاوز الخلافات، وتوحيد صفوف السجناء. كان يؤكد دائمًا على أهمية وحدة الكلمة والصف، وأن الخلافات الداخلية لا تخدم إلا مصلحة النظام.
- 5.4 تجاوزات محدودة: التمسك بالقيم: رغم بعض التجاوزات التي قام بها بعض السجناء، حافظ السجناء على قيمهم، ولم يرتكبوا جرائم قتل بحق أسرى النظام. كان السجناء يتمتعون بقدر كبير من المسؤولية والانضباط، وكانوا حريصين على عدم تلطيخ أيديهم بالدماء، والحفاظ على القيم الإنسانية والأخلاقية.
6. نهاية الاستعصاء وتداعياته: دروس مستفادة للمستقبل
- 6.1 انتخابات داخل السجن: قوة الديمقراطية: سعياً لتوحيد الصفوف وحسم الخلافات، أجرى السجناء انتخابات لاختيار ممثلين عنهم للتفاوض مع النظام. كانت هذه الانتخابات تجربة فريدة في تاريخ السجون، أظهرت مدى وعي السجناء وإيمانهم بالديمقراطية والشورى. كان الهدف من الانتخابات هو اختيار قيادة موحدة تمثل جميع السجناء، وتكون قادرة على التفاوض مع النظام بشكل فعال.
- 6.2 المفاوضات الأخيرة مع النظام: محاولة أخيرة: تفاوض حسن مع ضباط النظام مرة أخرى، في محاولة لتأمين السجناء والحفاظ على حياتهم. كانت هذه المفاوضات الأخيرة صعبة وشاقة، لكن حسن كان حريصًا على عدم التفريط في حقوق السجناء، ومحاولة التوصل إلى اتفاق يحفظ سلامتهم. كان يدرك أن النظام لا يلتزم بالعهود، لكنه كان يسعى إلى بذل كل ما في وسعه لحماية السجناء.
- 6.3 إنهاء الاستعصاء: نهاية مرحلة وبداية أخرى: انتهى الاستعصاء في نهاية عام 2008 بنقل السجناء إلى سجن عذرا، الذي كان يمثل نهاية لمرحلة وبداية لأخرى. كانت هذه التجربة بمثابة مدرسة للقيادة والتنظيم، وأكسبت السجناء خبرة قيمة في مواجهة الظلم والاستبداد. هذه التجربة ستكون لها آثار إيجابية على مستقبل الثورة السورية.
خاتمة:
تمثل تجربة حسن صوفان في سجن صيدنايا محطة تحول كبرى في حياته، ومثالًا حيًا على قدرة الإنسان على التحول والتغيير. فقد اكتسب فيها خبرة قيادية وفكرية، وطور رؤية عميقة لمستقبل سوريا. هذه التجربة أثبتت أن السجون ليست مجرد أماكن للقمع والتعذيب، بل يمكن أن تكون أيضًا مدارس للوعي والتحرر، حيث تنمو فيها بذور المقاومة والإصرار على التغيير. قصص صمود وإصرار كهذه هي التي تُلهم الأمل، وتدفع نحو تحقيق التغيير المنشود في سوريا والعالم.






