لماذا تفجرت ثورة الجامعات في أمريكا؟ تحليل للدوافع والتداعيات .

مقدمة:
اهتز العالم على وقع المشاهد الصادمة للعنف والاعتقالات التي طالت المتظاهرين الطلاب في الجامعات الأمريكية المرموقة. صورٌ أعادت إلى الأذهان تناقضًا صارخًا بين الصورة النمطية لأمريكا كواحة للديمقراطية والحرية، وبين واقع القمع الذي يذكرنا بمقولة مالكوم إكس الشهيرة عن “النفاق الأمريكي”. لكن ما الذي أشعل فتيل هذه الثورة الطلابية؟ وما هي الدوافع الكامنة وراء هذا الحراك غير المسبوق؟ وهل يمكن أن تُحدث هذه الاحتجاجات تغييرًا حقيقيًا في السياسة الأمريكية؟
في هذا المقال، نستعرض تحليلًا معمقًا للدكتور سامي العريان، الأستاذ المتخصص في الشؤون العامة ومدير مركز الدراسات الإسلامية والشؤون العالمية، والذي يقدم رؤية ثاقبة حول هذه القضية المحورية في بودكاست عربي بوست. نغوص في تفاصيل الحراك الطلابي، ونستكشف جذوره التاريخية، ودوافع الجيل الشاب، وتأثير اللوبي الصهيوني، والاحتمالات المستقبلية لهذه الثورة الجامعية وتداعياتها على الانتخابات الأمريكية القادمة.
1. شرارة الغضب: لماذا الجامعات؟ ولماذا الآن؟
1.1. حراك طلابي تاريخي بنكهة فلسطينية:
يشير الدكتور العريان إلى أن الحركة الطلابية في أمريكا ليست وليدة اليوم، بل لها جذور عميقة تمتد لأكثر من قرن. لكن ما يميز هذه الموجة الحالية هو “الشجاعة، والشغف المتأجج، والتصميم والعزم” غير المسبوقين في تبني قضية فلسطين. يذكر الدكتور أنه خلال أربعة عقود قضاها في أمريكا، لم يشهد حراكًا بهذا الزخم حتى خلال أحداث جسيمة مثل الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.
1.2. جيل جديد واعٍ:
يلفت الدكتور العريان النظر إلى دور الجيل الثالث من العرب والمسلمين في الجامعات الأمريكية، هذا الجيل الذي كان يُفترض أن يكون قد “انصهر” في المجتمع الأمريكي، ولكنه أثبت عكس ذلك تمامًا. هذا الجيل، الذي عايش فظائع غزة عبر الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، يرفض التماهي مع “الفكرة الأمريكية” المنحازة للكيان الصهيوني، ويُظهر استعدادًا لتقديم تضحيات جسيمة من أجل القضية الفلسطينية.
1.3. الجامعات كحاضنة للتغيير:
يتساءل الدكتور: لماذا الجامعات تحديدًا؟ ويجيب بأن الجامعات لطالما كانت منطلقًا للحركات التغييرية في التاريخ الأمريكي. فهي حاضنة للنخب وصناع القرار المستقبليين، كما أنها بيئة خصبة للحوار الفكري والنقد السياسي. ويضيف أن الجامعات تتميز بقدرتها على التأثير المباشر في الرأي العام، حيث أن الطلاب يؤثرون في أسرهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم بشكل أوسع.
1.4. قاعدة صلبة للحراك:
يشير الدكتور إلى وجود قاعدة مؤسسية للحراك الطلابي الداعم لفلسطين في الجامعات الأمريكية، متمثلة في منظمات طلابية مثل “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” (SJP)، والتي تأسست مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية وتوسعت لتشمل عشرات الجامعات. هذه المنظمات توفر بنية تحتية جاهزة للتعبئة والتنظيم.
2. دوافع أعمق: ما وراء الغضب من الحرب على غزة؟
2.1. التركيبة السكانية للجامعات:
يُسلط الدكتور العريان الضوء على التركيبة السكانية للجامعات الأمريكية المرموقة، حيث يرتفع تمثيل الطلاب اليهود بشكل كبير مقارنة بنسبتهم العامة في المجتمع الأمريكي. هذه الجامعات تستقطب أبناء النخب وأصحاب الثروة والنفوذ، بمن فيهم نسبة كبيرة من اليهود الذين يحرصون على إلحاق أبنائهم بهذه المؤسسات المرموقة.
2.2. تحولات داخل المجتمع اليهودي:
يشير الدكتور إلى ظاهرة متنامية، وهي انضمام أعداد متزايدة من الطلاب اليهود إلى الحراك الداعم لفلسطين. يعزو ذلك إلى طبيعة البيئة الجامعية التي تشجع على التفكير النقدي والتحليل، وإلى الاحتكاك المباشر بين الطلاب اليهود والعرب والمسلمين، مما يؤدي إلى تحولات جذرية في قناعات بعض الطلاب اليهود الذين يبدأون بالتساؤل عن الصهيونية وينتهي بهم الأمر إلى مناهضتها.
2.3. نظام الحكم في أمريكا: من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى:
يشرح الدكتور العريان آليتي التغيير في أمريكا: من الأعلى إلى الأسفل (Top-Down) عبر المؤسسات السياسية والنخب الحاكمة، ومن الأسفل إلى الأعلى (Bottom-Up) عبر الحركات الاجتماعية والضغط الشعبي. ويرى أن الحراك الطلابي الحالي يمثل مسار التغيير من الأسفل إلى الأعلى، والذي يتميز بقدرته على تحويل الرأي العام والتأثير في السياسات على المدى الطويل.
3. التناقض الصارخ: حرية التعبير أم قمع الانتقاد؟
3.1. تاريخ من القمع باسم الأمن القومي:
يستعرض الدكتور العريان تاريخًا من قمع الحركات الطلابية في أمريكا، بدءًا من حركة الحقوق المدنية للسود في الستينيات، مرورًا بحركة مناهضة حرب فيتنام في السبعينيات، وصولًا إلى قمع الاحتجاجات المناهضة للعنصرية في جنوب أفريقيا في الثمانينيات. يشير إلى أن القمع الحالي ليس جديدًا، بل هو جزء من نمط تاريخي يتكرر كلما تحدت حركات اجتماعية مصالح النخب الحاكمة.
3.2. اللوبي الصهيوني وهيمنة الرواية:
يؤكد الدكتور على قوة اللوبي الصهيوني وهيمنته على النخب الحاكمة والمؤسسات السياسية والإعلامية في أمريكا. يرى أن هذا اللوبي يمارس ضغوطًا هائلة لإسكات أي صوت ينتقد إسرائيل، ويستخدم تهمة “معاداة السامية” كسلاح لإخماد أي حراك مؤيد لفلسطين.
3.3. ازدواجية المعايير في حرية التعبير:
يشير الدكتور إلى التناقض الصارخ في تعامل السلطات الأمريكية مع حرية التعبير، حيث يتم التسامح مع انتقاد الحكومة الأمريكية والرئيس، ولكن يتم قمع أي انتقاد للاحتلال الإسرائيلي بوحشية. يرى أن هذا يكشف زيف الادعاءات الأمريكية بالديمقراطية المطلقة، ويؤكد أن المصالح السياسية والاقتصادية تغلب على القيم المعلنة عندما تتعارض معها.
4. هيكل الجامعات: من يملك القرار؟
4.1. الجامعات الخاصة والوقف:
يشرح الدكتور هيكل الجامعات الأمريكية، ويميز بين الجامعات الحكومية التابعة للولايات والجامعات الخاصة التي تعتمد على الأوقاف الضخمة. يشير إلى أن الجامعات الخاصة المرموقة، التي تشهد الحراك الطلابي الأكبر، تتمتع باستقلالية نسبية عن الحكومة، ولكنها تخضع لتأثير مجالس الأمناء والجهات المانحة، والتي تضم في كثير من الأحيان شخصيات صهيونية نافذة.
4.2. ضغوط على رؤساء الجامعات:
يؤكد الدكتور أن رؤساء الجامعات يتعرضون لضغوط هائلة من الجهات المانحة والسياسيين واللوبي الصهيوني لقمع الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين. يشير إلى أن قرار رئيسة جامعة كولومبيا باستدعاء الشرطة إلى الحرم الجامعي كان نتيجة لهذه الضغوط، ولكنه أدى إلى تفاقم الأزمة بدلًا من حلها.
5. الاستثمارات والأوقاف الجامعية: شراكة مع إسرائيل أم مقاطعة؟
5.1. استثمارات بمليارات الدولارات:
يشرح الدكتور آلية إدارة الأوقاف الجامعية الضخمة، والتي تُستثمر في شركات مختلفة، بما في ذلك شركات قد تكون لها علاقات مع الكيان الصهيوني أو تدعم صناعة الأسلحة التي تستخدم ضد الفلسطينيين.
5.2. مطالب الطلاب بسحب الاستثمارات:
يشير إلى أن الطلاب المتظاهرين يطالبون جامعاتهم بسحب استثماراتها من الشركات التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي وصناعة الأسلحة، على غرار ما حدث في حركة مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
5.3. تخوف إسرائيلي من المقاطعة:
يؤكد الدكتور أن الكيان الصهيوني يخشى من نجاح حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات، لأنها قد تمتد إلى صناديق التقاعد والاستثمارات الحكومية، مما قد يشكل “كسرًا للعظم” وتأثيرًا خطيرًا على الاقتصاد الإسرائيلي.
6. ملامح الطالب الثائر: جيل واعٍ ومثقف
6.1. ثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي:
يصف الدكتور الطالب الجامعي اليوم بأنه جيل نشأ في عصر ثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي، مما جعله أكثر وعيًا وانفتاحًا على العالم، وأقل عرضة للتضليل الإعلامي.
6.2. التفاعل المباشر مع القضية الفلسطينية:
يشير إلى أن الطلاب اليوم على تواصل مباشر مع القضية الفلسطينية عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وعبر الاحتكاك المباشر بالشباب الفلسطيني والعربي والمسلم في الجامعات، مما يزيد من تعاطفهم وتضامنهم مع القضية.
6.3. جيل يرفض النفاق والظلم:
يرى أن هذا الجيل الشاب يرفض النفاق وازدواجية المعايير، ويثور على الظلم والقمع الذي يمارس بحق الفلسطينيين. يشعرون بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية تجاه ما يحدث في غزة، ويرفضون أن يتم ذلك باسمهم.
7. تأثير الاحتجاجات على الانتخابات الأمريكية:
7.1. صراع الأصوات المتأرجحة:
يشرح الدكتور النظام الانتخابي الأمريكي المعقد، وأهمية الولايات المتأرجحة في تحديد نتائج الانتخابات الرئاسية. يشير إلى أن أصوات العرب والمسلمين والشباب التقدمي في بعض الولايات المتأرجحة قد تكون حاسمة في تحديد الفائز في الانتخابات القادمة.
7.2. تأثير محتمل على أصوات الديمقراطيين:
يرى أن الاحتجاجات الطلابية قد تؤثر سلبًا على حظوظ بايدن في الانتخابات، حيث أن قطاعًا من الناخبين الديمقراطيين، وخاصة الشباب والعرب والمسلمين، قد يعزفون عن التصويت له بسبب موقفه المنحاز لإسرائيل.
7.3. تغير في الرأي العام:
يشير إلى وجود تغير ملحوظ في الرأي العام الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، حتى في قاعدة الحزب الجمهوري، حيث بدأت نسبة متزايدة من الأمريكيين تعبر عن رفضها للحرب على غزة وتدعو إلى وقف إطلاق النار.
8. حرب الرواية: هل يمكن كسر الهيمنة الصهيونية؟
8.1. زلزال “طوفان الأقصى” وتداعياته الاستراتيجية:
يصف الدكتور “طوفان الأقصى” بأنه “زلزال” أحدث تغييرًا استراتيجيًا كبيرًا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يرى أنه كسر صورة “الكيان” الأمنية والعسكرية، وأضعف الثقة بقدرة قادته ونظامه، وفضح طبيعته الاستعمارية والعنصرية.
8.2. تصدع في الرواية الصهيونية:
يؤكد أن الرواية الصهيونية المهيمنة بدأت تتصدع أمام الحقائق التي تكشفت للعالم حول طبيعة الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه بحق الفلسطينيين. يشير إلى تغير طفيف حتى في بعض وسائل الإعلام الأمريكية التي كانت تقليديًا منحازة لإسرائيل.
8.3. نحو تفكيك المشروع الصهيوني؟
يختتم الدكتور تحليله برؤية مستقبلية تتجاوز حل الدولتين، ويرى أن الحل الحقيقي يكمن في “تفكيك هذا الكيان” القائم على الفصل العنصري والعدوان. يؤكد أن هذا الهدف يتطلب وقتًا وجهدًا، ولكنه ممكن التحقيق إذا تم استثمار الحراك الحالي والبناء عليه بشكل استراتيجي ومؤسسي.
خاتمة:
إن “ثورة الجامعات” في أمريكا ليست مجرد احتجاجات عابرة، بل هي مؤشر على تحولات عميقة تجري في المجتمع الأمريكي وفي الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية. إنها فرصة تاريخية يجب استثمارها والبناء عليها، من خلال دعم الحراك الطلابي، وتعزيز الوعي بالقضية الفلسطينية، وتوحيد الجهود لمواجهة اللوبي الصهيوني وهيمنته، والعمل من أجل تحقيق العدالة والحرية للشعب الفلسطيني. إن تضحيات غزة لم تذهب سدى، بل كانت شرارة أشعلت ضمائر العالم، وأيقظت جيلًا جديدًا يرفض الظلم ويسعى للتغيير.