الفيلسوف طه عبد الرحمن: رحلة فكرية من المغرب إلى العالمية

هذا المقال يستعرض السيرة الفكرية للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، مستنداً إلى مقابلة أجريت معه في بودكاست الشرق. ينطلق المقال من طفولة عبد الرحمن في المغرب تحت الاحتلال الفرنسي، وصولاً إلى مسيرته الأكاديمية المتميزة ونظرياته الفلسفية المبتكرة.

طفولة مشحونة وصولاً إلى السربون

ولد طه عبد الرحمن عام 1944 في مدينة الجديدة المغربية، تحت الاحتلال الفرنسي. تَعرّضَ لمعاملة قاسية من مُعلّم فرنسي في صغره، نتيجة مواقفه المعادية للاحتلال، وهو حدث ترك أثراً عميقاً في نفسيته وشكل مساره الفكري لاحقاً. تلقى تعليمه الأولي في الكتاتيب، حيث حفظ جزءاً كبيراً من القرآن الكريم، ثم انتقل إلى المدارس الفرنسية، قبل أن يتجه لدراسة الفلسفة في المغرب وفرنسا. تخللت هذه المرحلة العديد من الأحداث التي أثرت في مسيرته، من بينها هزيمة 1967 التي اعتبرها نقطة تحوّل فارقة في حياته.

1967: نقطة تحوّل فكرية

هزيمة 1967 شكلت صدمة كبيرة لطه عبد الرحمن، ودفعته إلى إعادة التفكير في مساره الفكري. سعى إلى فهم أسباب هذه الهزيمة، ووجد ضالته في دراسة العقل و آلياته، بهدف تمكين المسلمين والعرب من مواجهة تحدياتهم. انتقل إلى جامعة السوربون في فرنسا، حيث قضى سنوات طويلة في الدراسة المكثفة، متقناً ست لغات على الأقل، بهدف الوصول إلى أقصى درجات المعرفة والفهم. لم تقتصر دراسته على الفلسفة الغربية، بل امتدت لتشمل مجالات أخرى كالتاريخ والفنون، مما أثرى رؤيته الفكرية.

نقد التراث والحداثة: مشروع فكري مستمر

بعد عودته إلى المغرب، بدأ طه عبد الرحمن مسيرته الأكاديمية، مُركزاً على دراسة الفلسفة الإسلامية. لم يكتفِ بنقل الأفكار الفلسفية الغربية، بل سعى إلى إبداع فلسفة إسلامية أصيلة، مستمدة من القيم والمفاهيم الإسلامية، مع نقدٍ حاد لِما اعتبره توفيقاً سطحيّاً بين العقيدة الإسلامية والمفاهيم اليونانية، كما فعل ابن رشد. يُبرز عبد الرحمن أن الفلاسفة المسلمين لم يبدعوا فلسفةً جديدةً، بل نقلوا مفاهيم يونانية، مُترجِمين إياها إلى اللغة العربية دون إعادة صياغتها أو تطويرها.

انتقل عبد الرحمن بعد ذلك إلى مشروع فكري جديد، تمحور حول نقد الحداثة. يُعرّف الحداثة على أنها مجموعة من القيم الكونية التي سعت إليها الإنسانية عبر التاريخ، وليس فقط ظاهرة غربية حديثة. يُؤكد على وجود حداثة إسلامية، مُستمدة من القيم الإسلامية الأصيلة، كالعدل، والصدق، والحقيقة.

النظريّة الإئتمانية: فلسفة أخلاقية جديدة

تُعتبر النظريّة الإئتمانية جوهر مشروع طه عبد الرحمن الفكري. وهي فلسفة أخلاقية تُركز على مفهوم “الإئتمان” مقابل “الامتلاك”. يُشير إلى أن الحداثة الغربية، بدءاً من ديكارت، بنيت على مفهوم الامتلاك، مما أدى إلى فقدان الشعور بالمسؤولية. بينما تُؤكد النظريّة الإئتمانية على المسؤولية، باعتبار أن كل ما يملك الإنسان هو أمانة، مما يولد شعوراً بالواجب والالتزام الأخلاقي.

قام عبد الرحمن بتطبيق نظريته الإئتمانية على قضايا مختلفة، من بينها الصراعات العربية والإسلامية، في كتابه “ثغور المرابطة”. كما تناول في كتاباته موضوع “الشر المطلق”، مُحلّلاً أبعاد هذا الشر وتجلياته المتعددة في الواقع.

الصورة: تحديات التواصل في العصر الرقمي

اهتمّ طه عبد الرحمن بدراسة تأثير الصورة في التواصل البشري، مُشيراً إلى مخاطرها المحتملة، خاصةً في العصر الرقمي. يُلاحظ أن الصورة تُعزِل الأفراد عن بعضهم البعض، وتُحجب عنهم سماع الأصوات الأخرى، مما يُعيق التواصل الحقيقي. يُشدّد على ضرورة إعادة الاعتبار للسمع، باعتباره وسيلةً للاتصال بالله، مُقارنةً بالنظر الذي يُعتبر وسيلةً للتأمل في الكائنات المادية.

من الفكر المُحلّق إلى الفكر الجاثم: مقاومة في زمن التحديات

في السنوات الأخيرة، انتقل طه عبد الرحمن من الفكر المُحلّق إلى الفكر الجاثم. يُشير إلى أن الفكر يحتاج إلى أن يُرسّخ في أرض الواقع، وأن يُواجه التحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية والعالم. يُمثّل هذا التحول نقطةً مهمّة في مساره الفكري، حيث يجمع بين النظرية والتطبيق، مُوظّفاً فلسفته في مواجهة التحديات الراهنة.

ختاماً: مشروعٌ فكريٌّ مستمرّ

يُختتم المقال بتأكيد استمرار المشروع الفكري لطه عبد الرحمن، الذي يسعى إلى تقديم فلسفةٍ أخلاقيةٍ إسلاميةٍ للعالم، مُستمدة من السيرة النبوية. يُعتبر هذا المشروع إسهاماً هاماً في التفكير الإسلامي المعاصر، مُتجاوزاً التحديات الفكرية والمعرفية التي تواجه الأمة الإسلامية والعالم أجمع.

شاهد الحلقة كاملة ولا تنس التعليق والمشاركة

Exit mobile version